فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
من تمام مثل المنافقين- كذلك أصحاب الغفلات- إذا حضروا مشاهد الوعظ، أو جنحت قلوبهم إلى الرقة، أو داخلهم شيء من الوهلة تَقْرُبُ أحوالهم من التوبة، وتقوى رغبتهم في الإنابة حتى إذا رجعوا إلى تدبرهم، وشاوروا إلى قرنائهم، أشار الأهل والولد عليهم بالعَوْدِ إلى دنياهم، وبسطوا فيهم لسان النصح، وهَدَّدُوهم بالضعف والعجز، فيضعف قصودُهم، وتسقط إرادتهم، وصاروا كما قيل:
إذا ارعوى عاد إلى جهله ** كَذِي الضنى عاد إلى نكسه

وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} يعني سمع المنافقين الظاهر وأبصارهم الظاهرة، كما أصمهم وأعماهم بالسر، فكذلك أرباب الغفلة، والقانعون من الإسلام بالظواهر- فالله تعالى قادر على سلبهم التوفيق فيما يستعملونه من ظاهر الطاعات، كما سلبهم التحقيق فيما يستبطنونه من صفاء الحالات. اهـ.

.من فوائد الفخر في الآية:

قال عليه الرحمة:
منهم من استدل به على أن المعدوم شيء، قال: لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء.
والجواب: لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئًا، فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئًا.

.فائدة: شبهة لجهم بن صفوان والرد عليها:

احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئًا، واحتج أيضًا على ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} [الشورى: 11] قال لو كان هو تعالى شيئًا لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} فوجب أن لا يكون شيئًا حتى لا تتناقض هذه الآية، واعلم أن هذا الخلاف في الاسم، لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، واحتج أصحابنا بوجهين:
الأول: قوله تعالى: {قُلْ أَىُّ شيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [الأنعام: 19] والثاني: قوله تعالى: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئًا.

.فائدة: في مقدور العبد ومقدور الله تعالى:

احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافًا لأبي علي وأبي هاشم، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدورًا لله تعالى.

.فائدة: المحدث حال حدوثه:

احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافًا للمعتزلة، فإنهم يقولون: الاستطاعة قبل الفعل محال، فالشيء إنما يكون مقدورًا قبل حدوثه، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدورًا ترك العمل به فبقي معمولًا به في محل النزاع، لأنه حال البقاء مقدوره، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه، أما حال الحدوث، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدومًا في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادرًا على إيجاده.

.فائدة: تخصيص العام:

تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضًا تخصيص العام جائز بدليل العقل، لأن قوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [البقرة: 284] يقتضي أن يكون قادرًا على نفسه ثم خص بدليل العقل، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعًا للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذبًا، وذلك يوجب الطعن في القرآن، قلنا: لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع.
فقد يستعمل مجازًا في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازًا مشهورًا في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذبًا والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}.
قال ابن عرفة: هذا من تمام قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فصل بينهما بجملة اعتراض وهي قوله: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أتت مشددة لما قبلها.
قال: واختلفوا في كاد فقيل: نفيها إيجاب، وإيجابها نفي.
قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي عليها فهي كالأفعال على الاصح وقيل: إنها تقتضي الثبوت مع الماضي والمستقبل، وقيل: مع الماضي للاثبات ومع الاستقبال كالأفعال وانظر أبا حيان.
قال ابن عرفة: الظّاهر عندي أن الخلاف لفظي يرجع إلى الوفاق فمن رده النفي إلى المقاربة جعلها كسائر الأفعال ومن رده إلى نفس الفعل الذي تعلقت به المقاربة قال نفيها إثبات وإثباتها نفي.
فإن قلت: هلا قال: كلما أنار لهم مشواْ فيه؟
والجواب: أنه لشدة الظّلمة لا يزيلها إلاّ شدة الضوء وقليل النور لا يزيلها، أو لشدّة الضوء عقب شدة الظلمة إذ هو أشد في التخويف.
فإن قلت: هلا قيل: وإذا ذهب ضوؤه عنهم قاموا فإن ذهاب الضوء يكون بحصول مطلق الظلمة حسبما تقدم أن الضوء هو إفراط الإنارة.
والجواب بأنّ الحالتين لا واسطة بينهما: فإما ظلام شديد وإما ضوء شديد وهذا أبلغ في التخويف، وهو معاقبة ظلام شديد بضوء شديد سريع الذهاب يعقبه أيضا ظلام شديد.
فإن قلت: ما أفاد قوله: {فيه} مع أن المعنى يهدي إليه؟
قلنا: أفاد أنهم لا يمشون إلا في موضع الضوء خاصة، ولا يستطيعون المشي في غيره.
فإن قلت: ما أفاد قوله: {عَلَيْهمْ}؟
قلنا: التنبيه على أنّ تلك الظّلمات عقوبة فهي ظلمة عليهم ولأجلهم فليست على غيرهم بوجه.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
فإن قلت: هلا علقت المشيئة بما تحذروا منه، وهو الموت لأنهم لم يتحذروا من الصمم والعمى؟
والجواب: أن الموت أمر غالب عام متكرر في العادة ليس لأحد مقدرة عن التحرز منه وأما ذهاب السمع والبصر فهو نادر ليس بعام يمكن المخالفة فيه وادّعاء الحذر منه بالتحرز والتحصن بأسباب النجاة فلذلك أسندت المشيئات إليه.
قلت: أو لأنهم لم يتحرّزوا من الموت ألاّ بسدّ سمعهم فلذلك أسند الذهاب إليه.
قال الطيبي: والآية حجّة لمن يقول: إن القدرة تتعلق بالعدم الإضافي لأن المعنى: لو شاء الله أن يعدم سمعهم لعدمه.
وردّه ابن عرفة: بأن القدرة إنما تعلقت بإيجاد نقيض السمع والبصر في المحل، فانعدم السمع والبصر إذ ذاك لوجود نقيضهما لا لكون القدرة تعلقت بإعدامهما.
قال الطيبي: في مناسبة هذه الآية إنّه لما تقدم أن الرعد سبب لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب بصرهم نبّه بهذا على أنّه ليس بسبب عقلي فيلزم ولا ينفك بل هو سبب عادي بخلق الله تعالى ولم يقع ولو شاء أن يقع لوقع.
قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قال ابن التلمساني: لا خلاف لأن المعدوم باعتبار التقرر في الأزل لا يصدق عليه شيء واختلفوا في الإطلاق اللّفظي فذهب المعتزلة إلى أنه يطلق عليه شيء ومنعه أهل السنة.
قلت: وقال الآمدي في أبكار الأفكار: هما مسألتان:
- أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا ولا ينبني عليها كفر ولا إيمان؟
والثانية: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لا؟
فذهب المعتزلة إلى أنّ له تقررا في الأزل ويلزمهم الكفر وقدم العالم.
قال الزمخشري: في أن الشيء يطلق على الممكن والمستحيل.
وظاهر الآية حجة المعتزلة لأنه لو كان المراد أن الله على كل شيء موجودٍ قديرٌ للزم تحصيل الحاصل.
فإن قلت: يصح تعليق القدرة بالموجود عند من يقول: إن العَرض لا يبقى زمانين؟
قلت: إن كانت القدرة متعلقة بالعرض الموجود فيلزم تحصيل الحاصل، وإن تعلقت بإيجاد العرض الذي يخلقه هو حين التعلق معدوم فيلزم تعلقها بالمعدوم.
قلت: وأجيب بثلاثة أوجه:
الجواب الأول: أجاب القرافي في شرح الأربعين لابن الخطيب بأن المشتق كاسم الفاعل لا خلاف في صحة صدقه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.
واختلفوا في صدقه عن الماضي.
قال: هذا إذا كان محكوما به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا خلاف في صحة صدقه على الأزمنة الثلاثة حقيقة نحو القائم في الدار قال: وكذلك لفظة شيء إن كان محكوما به كقولنا: المعدوم شيء، ففيه التفصيل المتقدم، وإن كان متعلق الحكم كهذه الآية فلا خلاف أنه يصدق على المستقبل حقيقة.
الجواب الثاني: قال ابن عرفة: القدرة تتعلق بالممكن لعدم المقدر الموجود كما يفهم من معنى قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} المراد من حصل منه الزنا بالفعل، ومن سيحصل منه الزنا يصدق عليه في الحال أنّه زان باعتبار على تقدير وجوده، وهذا كما يقول المنطقيون: القضية الخارجية والقضية الحقيقية ويجعلون القضية الخارجية عامة في الأزمنة الثلاثة مثل كل أسود مجمع للبصر وكل أبيض مفرق للبصر.
والمراد به كل موصوف بالسّواد مطلقا في الماضي والحال والاستقبال.
فإن قلت: هلا يلزمكم تخصيصه بالممكن الذي علم الله تعالى أنه يوجد ولا يصدق على الممكن الذي علم الله أنه لا يوجد؟
قلنا: نعم وصح إطلاق الحدوث عليه لأن الآية خطاب للعوام ولو كان خطابا للخواص لتناولت الممكن بالإطلاق الذي علم لله أنه لم يوجد فالمراد: الله قادر على كل شيء موجود لأن الخطاب للعوام.
ونظيره الوجهان المذكوران في الاستدلال على وجود الصانع.
قالوا: ثم دليل الإمكان يخاطب به الخواص، ودليل الحدوث بخاطب به الجميع.
وأشار الطيبي إلى هذا وزاد جوابا آخر، وهو ثالث، وهو الجواب الثالث: أن لفظة شيء تصدق على الموجود عند وجود أول جزء منه فيصح تعلق القدرة به إذ ذَاك.
قالوا: وهذا العموم مخصوص بالمستحيل.
وقال ابن فورك: لا يحتاج إلى تخصيصه لأنك إذا قلت للآخر كل مما في هذا البيت فلا تأكل إلا مما هو مطعوم، وما ليس بمطعوم لا تأكله.
وكذلك هو الذي وقع به التخصيص اللّفظُ يأباه فلا يحتاج إلى إخراجه منه.
قال ابن عرفة: إنّا إن اعتبرنا لفظ شيء من حيث الإفراد وجب التخصيص وإن اعتبرناه من حيث التركيب لم يحتج إلى تخصيصه.
قال ابن الخطيب: لو كان لفظ شيء عاما في الموجود والمعدوم لما صدق على الموجود شيء لأن الآية دلّت على أن تعلق القدرة في العدم فلا يصدق عليه بعد الوجود شيء.
وأبطله ابن عرفة بأنه ما صار موجودا حتى ثبت له ذلك الاسم في العدم وتعلقت به القدرة وصدق عليه لفظ شيء. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَكَادُ البرق} استئناف آخرُ وقع جوابًا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالُهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك {يَخْطَفُ أبصارهم} أي يختلِسُها ويستلبها بسرعة، وكاد من أفعال المقاربة وُضعت لمقاربة الخبر من الوجود لتأخذَ أسبابَه وتعاضِدَ مباديَه لكنه لم يوجد بعدُ لفقد شرطٍ أو لعُروض مانع، ولا يكون خبرُها إلا مضارعًا عاريًا عن كلمة أن، وشذ مجيئه اسمًا صريحًا كما في قوله:
فأُبْتُ إلى فهمٍ وما كِدْتُ آيبا

وكذا مجيئه مع أنْ حملًا لها على عسى في مثل قول رؤبة:
قد كاد من طول البِلى أن يُمْحَصَا

كما تحمل هي عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة في أصل المقاربة وليس فيها شائبة الإنشائية كما في عسى، وقرئ يخطِف بكسر الطاء ويختطف ويَخَطف بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء إلى الخاء وإدغامها في الطاء، ويِخِطف بكسرهما على إتباع الياء الخاء، ويُخَطِّف من صيغة التفعيل ويتخطف من قوله تعالى: {وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم} كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف، أي كلَّ زمان إضاءةً، وقيل: ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف، أي كل وقت أضاء لهم فيه والعامل في كلما جوابها، وهو استئناف ثالث، كأنه قيل: ما يفعلون في أثناء ذلك الهول، أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم أم لا، فقيل: كلما نوّر البرقُ لهم ممشىً ومسلكًا على أن أضاء متعدٍ والمفعول محذوف، أو كلما لمع لهم على أنه لازم، ويؤيده قراءة: {كُلَّمَا أَضَاء} {مَّشَوْاْ فِيهِ} أي في ذلك المسلك أو في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطَف أبصارهم، وإيثارُ المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} أي خفي البرقُ واستتر، والمظلم وإن كان غيرَه، لكن لمّا كان الإظلامُ دائرًا على استتاره أُسند إليه مجازًا تحقيقًا لما أريد من المبالغة في موجبات تخبُّطِهم، وقد جوز أن يكون متعديًا منقولًا من ظلم الليل. ومنه ما جاء في قول أبي تمام:
هما أظلما حاليَّ ثُمّتَ أجليا ** ظلامَيْهما عن وجهِ أمردَ أشيبِ

ويعضُده قراءة أُظلِم على البناء للمفعول {قَامُواْ} أي وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصِمُهم، وإيرادُ كلما مع الإضاءة وإذا مع الإظلام للإيذان بأنهم حِراصٌ على المشي، مترقبون لما يصححه، فكلما وجدوا فرصة انتهزوها، ولا كذلك الوقوف، وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب ما لا يوصف {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} كلمة لو لتعليق حصولِ أمرٍ ماض هو الجزاءُ بحصول أمرٍ مفروض فيه هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء، ومن قضية مفروضية الشرطِ دلالتُها على انتفائه قطعًا، والمنازِعُ فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاءِ الجزاء فقد قيل وقيل.
والحق الذي لا محيد عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران كليًا أو جزئيًا قد بُني الحكم على اعتباره فهي دالةٌ عليه بواسطة مدلولها الوضعيّ لا محالة، ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول، أما في مادة الدوران الكلي كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقولك: لو جئتني لأكرمتُك فظاهرٌ لأن وجودَ المشيئة علةٌ لوجود الهداية حقيقةً، ووجودَ المجيء علةٌ لوجود الإكرام ادعاءً، وقد انتفيا بحكم المفروضية فاقتضى معلولاهما حتمًا، ثم إنه قد يساق الكلامُ لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائعُ لكلمة لو، ولذلك قيل: هي لامتناع الثاني لامتناع الأول، وقد تساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرًا أو مسلّمًا على انتفاء الأولِ لكونه خفيًا أو متنازعًا فيه، كما في قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وفي قوله تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} فإن فسادهما لازمٌ لتعدد الآلهةِ حقيقةً وعدمُ سبقِ المؤمنين إلى الإيمان لازمٌ لخيريته في زعم الكفرة ولا ريبَ في انتفاء اللازمين، فتعين انتفاءُ الملزومين حقيقة في الأول وادعاءً باطلًا في الثاني ضرورةَ استلزامِ انتفاءِ اللازم لانتفاء الملزوم، لكن لا بطريق السببية الخارجية، كما في المثالين الأولين، بل بطريق الدلالةِ العقلية الراجعةِ إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول، ومن لم يَتَنَبَّه له زعَم أنه لانتفاء الأولِ لانتفاء الثاني.
وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمسُ لوُجد الضوء، فلأن الجزاءَ المنوطَ بالشرط الذي هو طلوعُها ليس وجودَ أي ضوء كان كضوء القمر المجامعِ لعدم الطلوع مثلًا، بل إنما هو وجودُ الضوءِ الخاصِّ الناشئ عن الطلوع، ولا ريب في انتفائه بانتفاءِ الطلوع، هذا إذا بُني الحكمُ على اعتبار الدوران، وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبرَ هناك تحققُ مدارٍ آخرَ له أو لا، فإن اعتبر فالدلالةُ تابعةٌ لحال ذلك المدار، فإن كان بينه وبين انتفاءِ الأول منافاةٌ تُعيِّن الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلُع الشمسُ لوجد الضوء، فإن وجود الضوء وإن عُلِّق صورةً بعدم الطلوع لكنه في الحقيقة معلَّق بسبب آخرَ له، ضرورةَ أن عدم الطلوعِ من حيث هو ليس مدارًا لوجود الضوء في الحقيقة، وإنما وضع موضعَ المدار لكونه كاشفًا عن تحقق مدارٍ آخر له، فكأنه قيل: لو لم تطلعِ الشمسُ لوجد الضوء بسبب آخرَ كالقمر مثلًا. ولا ريب في أن هذا الجزاءَ منتفٍ عند انتفاء الشرط لاستحالة وجودِ الضوء القمَري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاةٌ تعيِّن عدمَ الدلالة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في بنت أبي سلمة: «لو لم تكن ربيبتي في حِجْري ما حلَّت لي لأنها ابنة أخي من الرضاعة» فإن المدار المعتبرَ في ضمن الشرط أعني كونها ابنةِ أخيه عليه السلام من الرضاعة غيرُ منافٍ لانتفائه الذي هو كونُها ربيبتَه عليه السلام، بل مجامعٌ له، ومن ضرورته مجامعةُ أثرَيهما أعني الحرمة الناشئةَ من كونها ربيبته عليه السلام، والحرمةَ الناشئة من كونها ابنةَ أخيه من الرضاعة. وإن لم يعتبر هناك تحققُ مدارٍ آخرَ بل بني الحكمُ على اعتبار عدمِه فلا دلالة لها على ذلك أصلًا.
كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيانِ ثبوتِ الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليُعلم ثبوتُه عند وقوعِ ما لا ينافيه بالطريق الأولى، كما في قوله عز وجل: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} وقوله عليه السلام: «لو كان الإيمانُ في الثريا لناله رجالٌ من فارس» وقولِ علي رضي الله عنه: «لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقينًا» فإن الأجزيةَ المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعي نقائضَها، إيذانًا بأنها في أنفسها بحيث يجب ثبوتُها مع فرض انتفاءِ أسبابها أو تحققِ انتفاء أسبابها، فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية، في مثل قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ولها تفاصيلُ وتفاريعُ حررناها في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} وقول عمرَ رضي الله عنه: «نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يعصِه» إنْ حُمل على تعليق عدمِ العصيان في ضمن عدمِ الخوف بمدارٍ آخرَ نحوُ الحياء والإجلالِ وغيرهما مما يجامِعُ الخوفَ كان من قبيل حديث ابنةِ أبي سلمة، وإن حُمل بيانُ استحالة عصيانه مبالغةً كان من هذا القبيل، والآية الكريمة، واردة على الاستعمال الشائعِ مفيدةٌ لكمال فظاعة حالِهم وغايةِ هول ما دهَمهم من المشاقّ، وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئةُ الله تعالى بإزالة مشاعرِهم لزالت، لتحقق ما يقتضيه اقتضاءً تامًا، وقيل: كلمة {لو} فيها لربط جزائها بشرطِها مجردةً عن الدلالة على انتفاء أحدِهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ جريًا على القاعدة المستمرة فإنها إذا وقعت شرطًا وكان مفعولُها مضمونًا للجزاء فلا يكاد يُذكر إلا أن يكون شيئًا مستغربًا كما في قوله:
فلو شئتُ أن أبكِي دمًا لبَكَيْتُه ** عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسعُ

أي لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل، ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحِكَم والمصالح، وقرئ لذهب بأسماعهم على زيادة الباء كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} الآية، والإفرادُ في المشهورة، لأن السمع مصدر في الأصل، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية، وقيل: على كلما أضاء الخ، وقوله عز وجل: {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} تعليلٌ للشرطية وتقريرٌ لمضمونها الناطقِ بقدرته تعالى على إزالة مشاعرِهم بالطريق البرهاني، والشيءُ بحسب مفهومِه اللغوي يقعُ على كل ما يصِحّ أن يُعلم ويُخبَرَ عنه كائنًا ما كان، على أنه في الأصل مصدر شاء أُطلِقَ على المفعول واكتُفي في ذلك باعتبار تعلقِ المشيئةِ به من حيث العلمُ والإخبارُ عنه فقط، وقد خصَّ هاهنا بالممكن موجودًا كان أو معدومًا بقضية اختصاصِ تعلقِ القدرة به، لما أنه عبارةٌ عن التمكين من الإيجاد والإعدام الخاصَّيْن به، وقيل: هي صفةٌ تقتضي ذلك التمكينَ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأْ لم يفعل، والقديرُ هو الفعّال لكل ما يشاء كما يشاء، ولذلك لم يوصَفْ به غيرُ الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومعنى قدرتِه تعالى على الممكن الموجود حالَ وجوده أنه إن شاء إبقاءَه على الوجود أبقاه عليه، فإن علةَ الوجود هي علةُ البقاء، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: {رَبّ العالمين} وإن شاء إعدامَه أعدمه، ومعنى قدرته على المعدوم حالَ عدمِه أنه إن شاء إيجادَه أوجده وإن لم يشأْ لم يوجِدْه، وقيل: قدرةُ الإنسان هيئةٌ بها يتمكن من الفعل والترك، وقدرةُ الله تعالى عبارة عن نفي العجز، واشتقاقُ القدرة من القَدْر لأن القادر يوقع الفعل بقدْر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوتِه، وفيه دليل على أن مقدورَ العبد مقدورٌ لله تعالى حقيقة، لأنه شيء وكلُّ شيء مقدورٌ له تعالى.
واعلم أن كلَّ واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق كما في قوله:
كأن قلوبَ الطير رَطْبًا ويابسا ** لدى وَكرها العُنّابُ والحَشَفُ البالي

بأن يُشبَّه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين وهُداهم الفطريُّ بالنار وتأييدُهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنِهم التامِّ من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور الناري، وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلماتِ الكثيفة وبقائهم فيها، ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة، والقرآنُ وما فيه من العلوم والمعارفِ التي هي مدارُ الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سببُ الحياة الأرضيةِ وما عَرَض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعدِ والبرقِ وتصامِّهم عما يقرَع أسماعَهم من الوعيد بحال من يَهُولُه الرعدُ والبرق فيخاف صواعقَه فيسدُّ أذنه عنها، ولا خلاصَ له منها، واهتزازُهم لِمَا يلمع لهم من رَشَدٍ يدركونه أو رِفد يُحرِزونه بمشيهم في مَطْرَحِ ضوء البرق، كلما أضاء لهم، وتحيُّرهم في أمرهم حين عنَّ لهم مصيبةٌ بوقوفهم إذا أظلم عليهم.
لكن الحملَ على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيهُ كلِّ واحدٍ من المفردات الواقعة في أحد الجانبين بواحدٍ من المفردات الواقعة في الجانب الآخر على وجه التفصيل، بل يُنتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه هيئةٌ فتُشبَّهُ بهيئةٍ أخرى منتزعةٍ من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه به بأن يُنتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة في كل واحد من التمثيلين هيئةٌ بحِيالها فتُشبَّه كلَّ واحدةٍ من الأوليين بما يضاهيها من الأُخْرَيين هو الذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعيه فخامةُ شأنه الجليلِ لاشتماله على التشبيه الأولِ إجمالًا مع أمرٍ زائدٍ هو تشبيهُ الهيئة بالهيئة وإيذانُه بأن اجتماعَ تلك المفردات مستتبعٌ لهيئة عجيبةٍ حقيقةٍ بأن تكون مثلًا في الغرابة. اهـ.